الشيخ محمد الحاج(ابو حسن)

بسم الله الرحمن الرحيم
وأفضل الصلاة وأتم السلام على أعظم الرسل محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛
يزخر التاريخ بسير الرجال ومآثرهم، فلا يكاد يمر قرن من القرون إلا ويتناقل الناس أخبار كبرائهم، ورجالاتهم، يتناوله أخبارهم، ويحدث به كبارهم صغارهم.
رجالٌ يتركون أطيب الأثر في حياة الناس ويُبقون ذكرى جميلة ومحببة إلى نفوس الناس بأخلاقهم الرفيعة، وتدينهم، وكرمهم، وتميزهم عن غيرهم بأفعال لم يكن أترابهم يفعلونها بالطريقة نفسها، ويصبحون حديث المجالس أو مضرب مثل للآخرين.
من هؤلاء الرجال الذين يذكرهم تاريخ عجلون، ويعرفهم كل كبار السن وربما كثير من أبنائهم؛ رجلٌ عُرف بالكرم والجود غير المتناهي، في وقت كانت ظروف الحياة فيه صعبة بل قاسية للغاية، يضيق الناس بقوت يومهم، نظراً للظروف الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية الصعبة في كل المنطقة العربية. وهو الوقت الذي سميت به الدولة العثمانية بالرجل المريض، أو نهايات العهد العثماني على الدول العربية، حيث ساد الفقر والجهل والتخلف الاجتماعي والاقتصادي لدرجة كبيرة جداً.
وُلد الشيخ أبو حسن محمد الحاج في قرية عين جنا من أعمال ولاية عجلون العثمانية مع منتصف القرن التاسع عشر (1847) الميلادي ولد الشيخ محمد حسن محمد عبد الله إسماعيل الحاج (أبو حسن). وقد اشتهر بالكرم والجود وإقراء الضيف، وكانت لديه مضافة يؤمها كل أبناء عجلون ومن القرى المحيطة الذين تنقطع بهم السبل للعودة إلى قراهم ليلاً إذا ما كانت لديهم حاجة يقضونها في مقر القائمقامية.
يتواتر الناس روايتان عن سبب تسميته بالحاج، إذ تقول الأولى: أن أم جده الأول ولدته وهي في طريقها لأداء مناسك الحج، وهي عادة أن يسمى كل من يولد في موسم الحج أن يطلق عليه لقب الحاج، أما الرواية الثانية فتقول أن جده كان أول حاج يذهب من عشيرة القضاة في عجلون ولذلك أطلق عليه اللقب والله اعلم.
عاش شيخنا رجلاً عصامياً يعتمد بعد الله على نفسه في زراعة وبناء ممتلكاته الشاسعة التي لا يزال حتى وقتنا الحاضر يتقاسمها الأولاد وأحفاده وذرياتهم في معظم مناطق محافظة عجلون. لكنه نشأ في بيئة لم يكن للتعليم حظاً وافراً فيها ولم يكن إلا ما يسُمى بالدواوين لتحفيظ كتاب الله وسنة رسوله عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، وقليل ما هم الذين كانوا يلتحقون بالكتاتيب أو يلحقون أبنائهم بها.
في ظروف قاسية صعبة، وُلد الشيخ أبو حسن ولكنه نشأ وترعرع في أحضان الطبيعة الشاسعة الرحبة، فانعكس جمالها على خلقه وعقله وافقه، وجوده وكرمه.
نشأ بين قومه الذين كانوا يمتهنون الزراعة إلى حد كبير، ويعتمدون على الرعي وتربية المواشي إلى جانب الزراعة. وكان ذو بنيته قوية سليمة يتمتع بصحة كبيرة، لم يكن يباريه بضعة رجال في أعمال الزراعة وبخاصة في موسم الحصاد الذي اشتهر في عجلون، واشتهر بالفزعات والعونات يتعاون أبناء المنطقة في حصاد حبوبهم المختلفة.
عرف عنه النشاط الكبير بين أقرانه وأقربائه فكان يربط الليل مع النهار في العمل، وقد كان إنتاجه من الحبوب يصل في بعض السنوات 15 طناً إضافة إلى محاصيل العنب والتين وغيرها من الخضروات والفواكه.
لكن الحبوب لم تكن هي الوحيدة من بين مزارعه المنتشرة في كل عجلون، وكان مما يذكر عنه أنه مر بأحد المزارعين في موسم العنب مع مجموعة من أصحابه، وحاول أن يأكل مع من كان معه فقد كانت عادة الناس أن لا يمر بهم عابر سبيل إلا ويكرمونه، لكن أصحاب المزرعة أبوا أن يضيفوهم، لا بل وجه الكلام للشيخ وهو وجه معروف لديهم أن ساعديك لا يعوزهما شيء أليس لك يد تستطيع أن تزرع بها وتأكل من عرق جبينك ؟؟، وأن أملاكك لا يملك أحدنا معشارها لماذا لا تزرع أرضك وتطعم أضيافك من رزقك، فانتفض شيخنا وقتها واقسم يمين بالله أن لا يذوق طعم العنب إلا من زراعة ونتاج يده، وهذا ما حصل حيث عاد إلى أرضه وزرع (365) شجرة تين على عدد أيام السنة وفي بستان واحد تبلغ مساحته (84) دونماً إضافة لزراعته بكل أنواع وألوان العنب، بمساعده زوجته الثانية أم عبد الرحمن، فقد كان له من النساء أربع زوجات. وكان للشيخ ما أراد بان أكل من محصول إنتاجه للعنب والتين بعد السنة الثاني من زراعته.
تواتر الناس في عجلون أخبار ومواقف الكرم الذي امتاز بها الشيخ أبو حسن رحمه الله ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
أنه جعل مزرعته لكل الناس ولكل عابر سبيل، يأكل من يشاء بمنتهى الحرية، وأقسم يميناً بالله أن لا يمنع أحد من تناول أي من خيرات هذه المزرعة، من عنب وتين وكل المحصولات. لا بل إنه ومن كرمه خصص شجرات منها فقط لعابر السبيل ومنع أهل بيته وأبنائه وأحفاده من أن يلتقطوا منها حبة واحدة وجعلها وقفاً على ابن السبيل، وقد كانت ولا زالت تعرف بتينات السبيل حتى يومنا هذا. وكان الله سبحانه وتعالى يعرف صدق نيته في وقفه هذه الشجرات لعابر السبيل، ولذلك عندما انقطع المارة على أقدامهم آو دوابهم عن المرور من الطريق العمومي، وصارت الطرق المعبدة والسيارات ولم يعد يمر بهذه الأشجار، أصيبت بالمرض (دود) ولا يستطيع كان من كان أن يأكل من هذه الشجرات حبة تين، حاول أحفاده أن يقطعوا الأشجار مراراً في محاولة لتجديد الأغصان لعل الحياة تعود إليها ولكنها بقيت على حالها ترى الجذع يشير إلى مئات السنين والغصن ابن سنتين أو ثلاث.
تقع هذه المزرعة على الشارع الرئيسي الممتد بين اربد والقدس عن طريق عجلون وقد كان أهالي المنطقة الشمالية للمملكة الأردنية الهاشمية يستخدمونه لأنه الطريق الرئيس. وفي احد الأيام مرت مجموعه من الجمّالة (أصحاب الجمال) وهم عائدون إلى بلادهم في الشمال من فلسطين فطلب منهم الشيخ أبو حسن أن يدخلوا البستان يأكلوا ويحملوا على دوابهم ما يشاءون من خيرات، إلا أنهم اعتذروا، فما كان منه إلا أن أشهر عليهم السلاح، وأنه لا يسمح لأي مار طريق إلا أن يدخل ويأكل ويحمل ما يريد له ولأهله فانصاعوا ودخلوا وأكلوا وحملوا ما شاء الله لهم أن يحملوا من عنب وتين.
تولى الشيخ محمد الحاج مشيخة القضاة (مختار) أربعة سنوات متواصلة وبالمجان دون أخذ عائد مادي، قد كان لها قصه طريفة حيث كانت المشيخة في عين جنا آنذاك بالتناوب يتداولها أبناء العشيرة فيما بينهم مقابل (10) عشرة قروش يأخذها شيخ العشيرة حينها عن كل نفس (شخص) في العام. إلا أن الطمع وحب النفس جعل بعض الأشخاص يحاولون أخذ دور غيرهم، للاستمرار بالمشيخة(منصب المختار). لكن الحاج محمد أبو حسن وقف بوجه هذا الطمع والتعدي على حقوق الآخرين متحدياً ورافضاً النكث بالوعد. إذ قام بإخبار قائم مقام لواء عجلون، بأنه قد اعفى كامل عشيرته من هذه الضريبة، واخذ على أثرها ختم المخترة عام 1940 وظل بحوزته لحين وفاته رحمه الله في عام 1948.
زار جلاله الملك عبد الله الأول عجلون في عام 1940 حيث بعث قائم مقام يطلب العنب على حساب القائم مقامية ولكن الشيخ رفض ذلك وكان هو الوحيد من رجال عشيرته الذي دُعي إلى الوليمة مع الملك رحمه الله.
تزوج الشيخ أبو حسن أربع زوجات لكن لم يجتمع عنده منهن إلا زوجتان في الوقت نفسه. وقد رزقه الله منهن 5 أبناء من الذكور: الابن الأكبر حسن، والثاني عبد الرحمن رحمهما الله. والثالث منعم وهو كبير أبناء محمد الحاج حالياً، والمهندس نعيم، والخامس عبد الله رحمه الله. وكذلك 4 بنات من الإناث هن فاطمة وخضرة وعائشة وتمام رحمهن الله، جميعهم كبروا وتزوجوا وأنجبوا، بنين وبنات تقلدوا العديد من المناصب، ونالوا أعلى الشهادات العلمية. وكذلك بعض المواليد الذين توفاهم الله في سن الطفولة.
توفي الشيخ محمد حسن الحاج (أبو حسن) رحمه الله وأسكنه فسيح جناته عن عمر يناهز 100 عام في صيف عام 1948، وقد قضاها في طاعة الله والإحسان إلى ذوي القربى واليتامى والمساكين وعابري السبيل، وستبقى ذكراه العطرة خالدة على ألسنة وقلوب وعقول أبناؤه وأحفاده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

هلا وغلى ابن العم (العريس) شكر الك على المشاركه

يا سلام ما أجمل سيرة اجدادنا وما أحلى ذكرهم